فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ}.
إشارة إلى قولهم: جئناك بالأثقال والعيال.
و{أن} في موضع نصب على تقدير لأن أسلموا.
{قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ} أي بإسلامكم.
{بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ} {أن} موضع نصب، تقديره بأن.
وقيل: لأن.
وفي مصحف عبد الله {إِذْ هَدَاكُمْ}.
{إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنكم مؤمنون.
وقرأ عاصم {إِنْ هَدَاكُمْ} بالكسر؛ وفيه بُعد؛ لقوله: {إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
ولا يقال يَمُنّ عليكم أن يهديكم إن صدقتم.
والقراءة الظاهرة {أنْ هَدَاكُمْ}.
وهذا لا يدل على أنهم كانوا مؤمنين، لأن تقدير الكلام: إن آمنتم فذلك مِنّة الله عليكم.
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قرأ ابن كثير وابن مُحَيْصن وأبو عمرو بالياء على الخبر، ردًّا على قوله: {قالتِ الأعراب}.
الباقون بالتاء على الخطاب. اهـ.

.قال أبو السعود:

{إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ}.
لَمْ يشكُّوا، منِ ارتابَ مطاوعُ رَاَبهُ إذَا أوقعَهُ في الشِكِّ مع التهمةِ وفيهِ إشارةٌ إِلى أنَّ فيهمْ ما يوجبُ نَفي الإيمانِ عنهُمْ وثُمَّ للإشعارِ بأَنَّ اشتراطَ عدمِ الارتيابِ في اعتبارِ الإيمانِ ليسَ في حالِ إنشائِه فقطْ بلْ وفيما يُستقبلُ فهيَ كمَا في قوله تعالى ثم استقامُوا {وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ في سَبِيلِ الله} في طاعتِه عَلى تكثرِ فنونِها من العباداتِ البدنيةِ المحضِة والماليةِ الصرفةِ والمشتملةِ عليهَما معًا كالحجِّ والجهادِ {أولئك} الموصوفونَ بمَا ذكرَ منَ الأوصافِ الجميلةِ {هُمُ الصادقون} أي الذينَ صدقُوا في دَعْوى الإيمانِ لا غيرُهم. رُوِي أنَّه لما نزلتْ الآيةُ جاءُوا وحلفُوا أنهم مؤمنونَ صادقونَ فنزلَ لتكذيبِهم قوله تعالى: {قُلْ أَتُعَلّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} أيْ أتخبرونَهُ بذلكَ بقولكم آمنَّا والتعبيرُ عَنْهُ بالتعليمِ لغايةِ تشنيعِهم {والله يَعْلَمُ مَا في السموات وَمَا في الأرض} حالٌ منْ مفعولِ تعلمونَ مؤكدةٌ لتشنيعِهم، وقوله تعالى: {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} تذييلٌ مقررٌ لمَا قبلَهُ أيْ مبالغٌ في العلمِ بجميعِ الأشياءِ التي منْ جُملتها ما أخفَوهُ من الكفرِ عندَ إظهارِهم الإيمانَ وفيهِ مزيدُ تجهيلٍ وتوبيخٍ لهم {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} أيْ يعدّونَ إسلامَهم منَّةً عليكَ وهيَ النعمةُ التِّي لا يطلبُ مُوليها ثوابًا ممنْ أنعمَ بَها عليهِ من المَنِّ بمَعنى القطعِ لأَنَّ المقصودَ بها قطعُ حاجتِه وقيلَ النعمةُ الثقيلةُ من المَنِّ {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم} أيْ لا تعدُوا إسلامَكُم منَّةً عليَّ أوْ لاَ تمنُّوا عليَّ بإسلامِكم فنصبَ بنزعِ الخافضِ {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للايمان} عَلى ما زعمتُم مَعَ أنَّ الهدايةَ لا تستلزمُ الاهتداءَ وقرئ {إِنْ هداكُم} و{َإِذْ هداكُم} {إِن كُنتُمْ صادقين} في ادعاءِ الإيمانِ وجوابُه محذوفٌ يدلُّ عليهِ ما قبلَهُ أيْ فللهِ المنةُ عليكُمْ، وفي سياقِ النظمِ الكريمِ منَ اللطفِ ما لا يَخْفى فإنَّهمُ لمَّا سمَّوا ما صدرَ عنُهم إيمانًا ومنُّوا بهِ فنُفَي كونُهُ إيمانًا وسُمِّي إسلامًا قيلَ يمنونَ عليكَ بمَا هُو في الحقيقةِ إسلامٌ وليس بجديرٍ بالمَنِّ بلْ لو صَحَّ ادعاؤُهم للإيمانِ فلله المنةُ عليهِمْ بالهدايةِ إليهِ لاَ لهُمْ.
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض} أيْ ما غابَ فيهمَا {والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} في سرِّكم وعلانيتِكم فكيفَ يَخْفَى عليهِ ما في ضمائرِكم وقرئ بالياءِ.
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «منْ قرأ سورةَ الحجراتِ أعطيَ من الأجرِ بعددِ منْ أطاعَ الله وعَصَاهُ». اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ}.
لم يشكوا من ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة وجعل عدم الارتياب متراخيًا عن الإيمان مع أنه لا ينفك عنه لإفادة نفي الشك فيما بعد عند اعتراء شبهة كأنه قيل: آمنوا ثم لم يعترهم ما يعتري الضعفاء بعد حين، وهذا لا يدل على أنهم كانوا مرتابين أولًا بل يدل على أنهم كما لم يرتابوا أولًا ثم يحدث لهم ارتياب ثانيًا، والحاصل آمنوا ثم لم يحدث لهم ريبة فالتراخي زماني، وقال بعض الأجلة: عطف عدم الارتياب على الإيمان من باب {مَلائكته} {وجبريل} [البقرة: 98] تنبيهًا على أنه الأصل في الإيمان فكأنه شيء آخر أعلى منه كائن فيه، وأوثر {ثُمَّ} على الواو للدلالة على أن هذا الأصل حديث وقديمه سواء في القوة والثبات فهو أبدًا على طراوته لا أنه شيء واحد مستمر فيكون كالشيء الخلق بل هو متجدد طري حينًا بعد حين، ولا بأس بأن يجعل ترشيحًا لما دل عليه معنى العطف لما جعل مغايرًا نبه على أنه ليس تغاير ما بين الاستمرار والحدوث بل تغاير شيئين مختلفين ليدل على المعنى المذكور وأنهم في زيادة اليقين آنًا فآنًا، أما عند من يقول فيه بالقوة والضعف فظاهر، وأما من لم يقل به فلانضمام العيان إلى البيان، والفرق بين الاستمرارين أن الاستمرار على الأول استمرار المجموع نحو قوله تعالى: {قالواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} [فصلت: 30] أي استمر بذلك إيمانهم مع عدم الارتياب، وعلى الثاني الاستمرار معتبر في الجزء الأخير، وهذا الوجه أوجه، وأيًا ما كان ففي الكلام تعريض بأولئك الأعراب {وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ في سَبِيلِ الله} في طاعته عز وجل على تكثر فنونها من العبادات البدنية المحضة والمالية الصرفة والمشتملة عليهما معًا كالحج والجهاد، وتقديم الأموال على الأنفس من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، ويجوز بأن يقال: قدم الأموال لحرص الكثير عليها حتى أنهم يهلكون أنفسهم بسببها مع أنه أوفق نظرًا إلى التعريض بأولئك حيث إنهم لم يكفهم أنهم لم يجاهدوا بأموالهم حتى جاؤا وأظهروا الإسلام حبًا للمغانم وعرض الدنيا ومعنى {جاهدوا} بذلوا الجهد أو مفعوله مقدر أي العدو أو النفس والهوى {أولئك} الموصفون بما ذكر من الأوصاف الجميلة {هُمُ الصادقون} أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان لا أولئك الأعراب.
روي أنه لما نزلت الآية جاؤا وحلفوا أنهم مؤمنون صادقون فنزل لتكذيبهم قوله تعالى: {قُلْ أَتُعَلّمُونَ الله بِدِينِكُمْ}.
أي اتخبرونه سبحانه وتعالى بذلك بقولكم {آمنا} [الحجرات: 14] فتعلمون من علمت به فلذا تعدى بالتضعيف لواحد بنفسه وإلى الثاني بحرف الجر، وقيل: إنه تعدى به لتضمين معنى الإحاطة أو الشعور فيفيد مبالغة من حيث إنه جار مجرى المحسوس وقوله تعالى: {والله يَعْلَمُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} حال من مفعول {تَعْلَمُونَ} وفيه من تجهيلهم ما لا يخفى، وقوله سبحانه: {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} تذييل مقرر لما قبله أي مبالغ في العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ما أخفوه من الكفر عند إظهارهم الإيمان.
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ}.
أي يعتدون إسلامهم منة عليك وهي النعمة التي لا يطلب موليها ثوابًا ممن أنعم بها عليه من المن بمعنى القطع لأن المقصود بها قطع حاجته، وقال الراغب: هي النعمة الثقيلة من المن الذي يوزن به وثقلها عظمها أو المشقة في تحملها، {وَأَنْ أَسْلَمُواْ} في موضع المفعول ليمنون لتضمينه معنى الاعتداد أو هو بتقدير حرف الجر فيكون المصدر منصوبًا بنزع الخافض أو مجرورًا بالحرف المقدر أي يمنون عليك بإسلامهم، ويقال نحو ذلك في قوله تعالى: {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم} فهو إما على معنى لا تعتدوا إسلامكم منة علي أو لا تمنوا علي بإسلامكم، وجوز أبو حيان أن يكون {أَنْ أَسْلَمُواْ} مفعولًا من أجله أي يتفضلون عليك لأجل إسلامهم {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ يُنَادِى للإيمان} أي ما زعمتم في قولكم {آمنا} [الحجرات: 14] فلا ينافى هذا قوله تعالى: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} [الحجرات: 14] أو الهداية مطلق الدلالة فلا يلزم إيمانهم وينافي نفي الإيمان السابق.
وقرأ عبد الله وزيد بن علي {إِذْ هَداكُمْ} بإذ التعليلية، وقرئ {أَنْ هَداكُمْ} بإن الشرطية {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في ادعاء الإيمان فهو متعلق الصدق لا الهداية فلا تغفل؛ وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي فلله المنة عليكم، ولا يخفى ما في سياق الآية من اللطف والرشاقة، وذلك أن الكائن من أولئك الأعراب قد سماه الله تعالى إسلامًا إظهارًا لكذبهم في قولهم: آمنا أي أحدثنا الإيمان في معرض الامتنان ونفى سبحانه أن يكون كما زعموا إيمانًا فلما منوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان منهم قال سبحانه لرسوله عليه الصلاة والسلام: يعتدون عليك بما ليس جديرًا بالاعتداد به من حديثهم الذي حق تسميته أن يقال له إسلام فقل لهم: لا تعتدوا على إسلامكم أي حديثكم المسمى إسلامًا عندي لا إيمانًا، ثم قال تعالى: بل الله يعتد عليكم أن أمدكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم، وفي قوله تعالى: {إسلامكم} بالإضافة ما يدل على أن ذلك غير معتد به وأنه شيء يليق بأمثالهم فأنى يخلق بالمنة، وللتنبيه على أن المراد بالإيمان الإيمان المعتد به لم يضفه عز وجل، ونبه سبحانه بقوله جل وعلا: {إِن كُنتُمْ صادقين} على أن ذلك كذب منهم، واللطف في تقديم التكذيب ثم الجواب عن المن مع رعاية النكت في كل من ذلك، وتمام الحسن في التذييل بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض}.
أي ما غاب فيهما {والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي في سركم وعلانيتكم فكيف يخفى عليه سبحانه ما في ضمائركم، وذلك ليدل على كذبهم وعلى اطلاعه عز وجل خواص عباده من نوأتباعه رضي الله تعالى عنهم.
وقرأ ابن كثير وأبان، عن عاصم {يَعْمَلُونَ} بياء الغيبة والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في بعض الآيات: {يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] الخ إشارة إلى لزوم العمل بالشرع ورعاية الأدب وترك مقتضيات الطبع، وقوله تعالى: {رَّحِيمٌ يا أيها الذين ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ} يشير إلى أنه إن سولت النفس الأمارة بالسوء وجاءت بنبأ شهوة من شهوات الدنيا ينبغي التثبت للوقوف على ربحها وخسرانها {إن بَعْدَهَا قَوْمًا} من القلوب وصفاتها {بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ} صباح يوم القيامة {على مَا فَعَلْتُمْ نادمين} [الحجرات: 6] فإن ما فيه شفاء النفوس وحياتها فيه مرض القلوب ومماتها {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} [الحجرات: 7] الخ يشير إلى رسول الإلهام الرباني في الأنفس بلهم فجورها وتقواها، ويشير قوله تعالى: {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الاخرى فقاتلوا التي تَبْغِى حتى تَفِيء إلى أَمْرِ الله} [الحجرات: 9] إلى أن النفس إذا ظلمت القلب باستيلاء شهواتها يجب أن تقاتل حتى تثخن بالجراحة بسيوف المجاهدة فإن استجابت بالطاعة عفى عنها لأنها هي المطية إلى باب الله عز وجل: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] إشارة إلى رعاية حق الأخوة الدينية ومنشأ نطفها صلب النبوة وحقيقتها نور الله تعالى فإصلاح ذات بينهم برفع حجب استار البشرية عن وجوه القلوب ليتصل النور بالنور من روزنة القلب فيصيروا كنفس واحدة {يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مّنْهُمْ} [الحجرات: 11] يشير إلى ترك الإعجاب بالنفس والنظر إلى أحد بعين الاحتقار فإن الظاهر لا يعبأ به والباطن لا يطلع عليه فرب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله تعالى لأبره {قالتِ الاعراب ءامَنَّا} [الحجرات: 14] إلى آخره فيه إشارة إلى أنه ينبغي ترك رؤية الأعمال والعلم بأن المنة في الهداية لله الملك المتعال، وفيه إرشاد إلى كيفية مخاطبة الجاهلين والرد على المحجوبين كما سلفت الإشارة إليه، هذا ونسأل الله تعالى التوفيق لما يرضاه يوم العرض عليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}.
هذا تعليل لقوله: {لم تؤمنوا} إلى قوله: {في قلوبكم} وهو من جملة ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله للأعراب، أي ليس المؤمنون إلا الذين آمنوا ولم يخالط إيمانهم ارتياب أو تشكك.
و (إنما) للحصر، و(إنّ) التي هي جُزء منها مفيدة أيضًا للتعليل وقائمة مقام فاء التفريع، أي إنما لم تكونوا مؤمنين لأن الإيمان ينافيه الارتياب.
والقصر إضافي، أي المؤمنون الذين هذه صفاتهم غير هؤلاء الأعراب.
فأفاد أن هؤلاء الأعراب انتفى عنهم الإيمان لأنهم انتفى عنهم مجموع هذه الصفات.
وإذ قد كان القصر إضافيًا لم يكن الغرض منه إلاّ إثبات الوصف لغير المقصور لإخراج المتحدث عنهم عن أن يكونوا مؤمنين، وليس بمقتض أن حقيقة الإيمان لا تتقوم إلا بمجموع تلك الصفات لأن عد الجِهاد في سبيل الله مع صفتي الإيمان وانتفاء الريب فيه يمنع من ذَلك لأن الذي يقعُد عن الجهاد لا ينتفي عنه وصف الإيمان إذ لا يكفَّر المسلم بارتكاب الكبائر عند أهل الحق.
وما عداه خطأ واضح، وإلا لانتقضت جامعة الإسلام بأسرها إلا فئة قليلة في أوقات غير طويلة.
والمقصود من إدماج ذكر الجهاد التنويه بفضل المؤمنين المجاهدين وتحريض الذين دخلوا في الإيمان على الاستعداد إلى الجهاد كما في قوله تعالى: {قل للمخلفين من الأعراب ستُدْعَون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يُسلمون} الآية [الفتح: 16].
و (ثم) من قوله: {ثم لم يرتابوا} للتراخي الرتبي كشأنها في عطف الجمل.
ففي (ثم) إشارة إلى أن انتفاء الارتياب في إيمانهم أهم رتبةً من الإيمان إذ به قوامُ الإيمان، وهذا إيماء إلى بيان قوله: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} [الحجرات: 14]، أي من أجل ما يخالجكم ارتياب في بعض ما آمنتم به مما اطلّع الله عليه.
وقوله: {أولئك هم الصادقون} قصر، وهو قصر إضافي أيضًا، أي هم الصادقون لا أنتم في قولكم {آمنًا}.
{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)}.
أعيد فعل {قل} ليدل على أن المقول لهم هذا هم الأعراب الذين أمر أن يقول لهم {لم تؤمنوا} إلى آخره، فأعيد لَمَّا طال الفصل بين القولين بالجمل المتتابعة، فهذا متصل بقوله: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} اتصالَ البيان بالمبين، ولذلك لم تعطف جملة الاستفهام.
وجملة {قل} معترضة بين الجملتين المبيِّنة والمبَّينة.
قيل: إنهم لمَّا سمعوا قوله تعالى: {قل لم تؤمنوا} الآية جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحلَفوا أنهم مؤمنون فنزل قوله: قل أتعلمون الله بدينكم ولم يرو بسند معروف وإنما ذكره البغوي تفسيرًا ولو كان كذلك لوبَّخهم الله على الأيمان الكاذبة كما وبَّخ المنافقين في سورة براءة (42) بقوله: {وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يُهلكون أنفسهم} الآية.
ولم أر ذلك بسند مقبول، فهذه الآية مما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم.
والتعليم مبالغة في إيصال العلم إلى المعلَّم لأن صيغة التفعيل تقتضي قوة في حصول الفعل كالتفريق والتفسير، يقال: أعْلَمَهُ وعلّمه كما يقال: أنباه ونَبَّأه.
وهذا يفيد أنهم تكلفوا وتعسفوا في الاستدلال على خلوص إيمانهم ليقنعوا به الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أبلغهم أن الله نفى عنهم رسوخ الإيمان بمحاولة إقناعه تدل إلى محاولة إقناع الله بما يعلم خلافه.
وباء {بدينكم} زائدة لتأكيد لصوق الفعل بمفعوله كقوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} وقول النابغة: